جائحة كورونا وجَّهت لطمة غير مسبوقة لجهود الحد من الفقر
يُمكِن لسياسة المالية العامة أن تساعد في إصلاح هذا الضرر

تُعد السوق المركزية بقرية جوكوتو الواقعة في مقاطعة يوتو بجنوب توغو مكاناً مفعماً بالصخب والحيوية وزاخراً بالحركة والنشاط، وتجتذب كل يوم مئات من الناس الساعين إلى شراء الطعام والملابس وأدوات العناية الشخصية. وهي أيضا مكان يكسب فيه الكثيرون أرزاقهم، ومنهم أجيليه نوميكبو التي تبلغ من العمر 41 عاماً.
ولكن السوق سادها الصمت والسكون في أوائل عام 2020.
تقول نوميكبو -وهي أم لأربعة أطفال- مشيرةً إلى الإغلاقات التي فُرِضت لمنع انتشار المرض "حينما حلَّت جائحة كورونا لزمنا منازلنا. ولم يستطع الناس الذهاب إلى السوق لشراء ما ننتجه من زيت النخيل."
وتبيَّن أن المبالغ التي تلقتها نوميكبو من خلال برنامج للتحويلات النقدية في العامين السابقين كانت شريان حياة زوَّدها باحتياطي مالي لامتصاص الصدمات في الأوقات العصيبة. وساعدتها هذه المبالغ على أن تشتري بعض الماشية لبدء جمعية تعاونية صغيرة، ومستلزمات إضافية من الجوز أتاحت لها زيادة إنتاج الأسرة من زيت الطعام.
وقالت "كنتُ أنا وأسرتي في وضعٍ لولا تلك التحويلات النقدية التي كنَّا نتلقاها لأصبحنا في الحضيض. وزادت أوضاعنا سوءا منذ ذلك الحين."

تُظهِر المبادرة التي استفادت منها نوميكبو وأسرٌ أخرى في توغو أن سياسة المالية العامة - أو استخدام النفقات والضرائب الحكومية في التأثير على الاقتصاد- تنطوي على إمكانات كبيرة لحماية الأسر من الصدمات ومساعدتها على كسب الرزق مرة أخرى. ولكن تدابير المالية العامة -كما أظهرت دراسةٌ جديدة للبنك الدولي- قد تجلب آثاراً مختلفة تبعاً للمكان والطريقة التي يجري بها تنفيذها.

ويُقدِّم تقرير الفقر والرخاء المشترك 2022 أول تحليل شامل لتأثير الجائحة على معدلات الفقر في البلدان النامية، ودور سياسة المالية العامة في حماية الفئات الأشد احتياجاً. وخلص التقرير أيضا إلى أن ما أحرزه العالم من تقدم في الحد من الفقر قد توقَّف، ودعا واضعي السياسات إلى تحرك عاجل لتصحيح المسار.

ضياع سنوات من التقدم
تسبَّبت جائحة كورونا في أكبر انتكاسة لجهود الحد من الفقر في العالم منذ عدة عقود.
وهبط معدل الفقر من نحو 40% من سكان العالم في 1990 إلى نحو 8% في 2019، وتخلَّص ما يربو على مليار نسمة من براثن الفقر المدقع في هذه الفترة. ولكن وتيرة التقدم القوية التي تحققت بين عامي 1990 و 2014 تقلصت بشدة في السنوات التالية، وقد توقفت الآن. ومما أسهم في هذا التباطؤ تراجع النمو الاقتصادي، والصراعات، وآثار تغير المناخ، وأن الفقر أصبح أكثر تركُّزا في مناطق يصعب الوصول إليها.
ثم أتت الجائحة بتداعياتها المُدمِّرة. وبنهاية عام 2020، كان عدد الأشخاص الذين يعيشون على أقل من 2.15 دولار للفرد في اليوم (وهو حد الفقر المدقع) قد زاد بنحو 70 مليونا، وهي أكبر زيادة في عام واحد منذ عام 1990 على الأقل حينما بدأ رصد أوضاع الفقر في العالم. وإجمالاً، كان 720 مليون شخص يعيشون في فقر مدقع في نهاية هذا العام.
واتسعت أيضا فجوات عدم المساواة بعد عقود من التقارب. وكان أكثر الناس فقراً هم الأشد تضررا من الجائحة بفقدان دخولهم وارتفاع الأسعار وتعطُّل خدمات الرعاية الصحية والتعليم. علاوةً على ذلك، كانت مسارات التعافي الاقتصادي منذ ذلك الحين متفاوتة. فالبلدان الغنية تتعافى بخطى أسرع كثيرا من اقتصادات البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل.
وقد تفاقم الوضع بسبب الحرب في أوكرانيا وارتفاع أسعار الغذاء والطاقة. وبنهاية العام الحالي قد يبلغ إجمالاً عدد الذين يعيشون في فقر مدقع 685 مليونا، أي ما يزيد بنحو 90 مليونا لو أن وتيرة السعي للحد من الفقر التي كانت سائدة قبل الجائحة استمرت. وإذا تحققت هذه التوقعات، فسوف يكون هذا ثاني أسوأ عام لجهود الحد من الفقر منذ بدأ العالم تسجيل هذه البيانات.
ولذلك، أصبح هدف القضاء على الفقر المدقع بحلول 2030 أبعد منالاً. فقرابة 7% من سكان العالم أو نحو 574 مليون نسمة سيكابدون على الأرجح الفقر المدقع في عام 2030. ويزيد هذا على ضعفي نسبة 3% اللازمة لبلوغ هذا الهدف.
حقَّقت سياسات المالية العامة تغيرا جوهريا
لولا استجابات المالية العامة التي عبَّأتها البلدان في شتَّى أنحاء العالم -في شكل برامج للتحويلات النقدية، وإعانات دعم للأجور، وإعانات البطالة، وتدابير أخرى، لكان تأثير جائحة كورونا على أوضاع الفقر أسوأ بكثير.
حتى سبتمبر/أيلول 2021، بلغت استجابة المالية العامة للتصدي للجائحة أكثر من 17 تريليون دولار أو 20% من إجمالي الناتج المحلي العالمي في 2020. ولولا استجابة سياسات المالية العامة، لكان معدل الفقر في الاقتصادات النامية قد زاد في المتوسط 2.4 نقطة مئوية عما كان عليه في 2020.
ولكن التقارير تظهر أن تأثير تدابير المالية العامة تفاوت تفاوتا كبيرا من بلدٍ لآخر.
إذ نجحت معظم الاقتصادات مرتفعة الدخل في التعويض بشكل كامل عن تأثير الجائحة على أوضاع الفقر من خلال استخدام سياسة المالية العامة، ولم تُعوِّض الشريحة العليا من الاقتصادات متوسطة الدخل سوى عن نصف هذا التأثير. أما الاقتصادات منخفضة الدخل والشريحة الدنيا من الاقتصادات متوسطة الدخل فلم تعوض سوى عن ربع تأثير الجائحة. ويُعزَى ذلك إلى محدودية فرص الحصول على التمويل، وضعف أنظمة تقديم الخدمات، وارتفاع حجم الاقتصاد غير الرسمي، مما زاد كثيراً من صعوبة حماية الوظائف.
وحتى قبل قدوم جائحة كورونا، كان استخدام أي بلد للتحويلات النقدية وإعانات الدعم كأداة لتخفيف أعباء الضرائب على دخول الأسر محدوداً في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل. ففي ثلثي الاقتصادات منخفضة ومتوسطة الدخل يتقلص دخل الأسر الفقيرة بعد سداد الضرائب وتلقي التحويلات وإعانات الدعم. وهنا أيضا، يُشكِّل ارتفاع مستوى الاقتصاد غير الرسمي تحديا جسيما، فلأن القاعدة الضريبية محدودة، تلجأ هذه البلدان في العادة إلى فرض ضرائب غير مباشرة مثل ضرائب المبيعات وهو ما يعود بالنفع على الأسر الموسرة.





فما الذي يمكن للبلدان القيام به لإعادة مساعي الحد من الفقر إلى مسارها الصحيح؟
إن تحقيق تعافٍ قادر على الصمود في وجه الصدمات سيتوقف على طائفة واسعة من السياسات، لكن سياسة المالية العامة يمكن أن تضطلع بدور مهم. يُحدِّد التقرير ثلاثة إجراءات رئيسية ذات أولوية في هذا المجال للسنوات القليلة القادمة:
1. توجيه الدعم إلى المواطنين الفقراء والأكثر احتياجاً والتحوُّل عن إعانات الدعم
اختار أكثر من 90% من البلدان التي اتخذت تدابير مبكرة للمالية العامة لمواجهة الأزمات الأخيرة لارتفاع أسعار الغذاء والطاقة تقديم إعانات دعم للمواطنين. ولكن إعانات الدعم فضلا عن أنها تُشوِّه الأسعار وتأثيرها السلبي في الأمد الطويل غالبا ما تستفيد منها الأسر الأكثر ثراء. على سبيل المثال، يذهب نصف إجمالي الإنفاق على دعم الطاقة في الاقتصادات منخفضة ومتوسطة الدخل إلى أغنى 20% من السكان الذين يستهلكون نسبة أكبر من الطاقة.
وعلى النقيض من ذلك، فإن برامج مثل التحويلات النقدية الموجهة تصل على الأرجح إلى الفئات الفقيرة والأكثر احتياجاً. ويذهب أكثر من 60% من الإنفاق على التحويلات النقدية إلى أفقر 40% من السكان. وثمة شواهد متزايدة على أن لها آثاراً مفيدة في الأمد الطويل، إذ تتيح للأسر على سبيل المثال القيام باستثمارات حيوية مثلا في تعليم أطفالهم.

2. الاستثمار لدعم التنمية طويلة الأجل
يمكن أن يكون للنفقات العامة الأعلى قيمة مثل الاستثمارات في رأس المال البشري للشباب أو الاستثمارات في البنية التحتية والبحوث والتطوير، تأثير مفيد على النمو أو عدم المساواة أو الفقر بعد مرور عدة عقود.
وفي خضم الأزمات، يصعب حماية هذه الاستثمارات، لكن من الضروري القيام بها. وقد أظهرت جائحة كورونا أن التقدم الذي تحقق بشق الأنفس على مدى عقود يمكن أن يتبدد بين عشية وضحاها. ومن شأن تصميم سياسات مالية عامة تستشرف المستقبل اليوم أن يساعد البلدان على تحسين استعدادها لمواجهة الأزمات في المستقبل وعلى حمايتها.

3. تعبئة الإيرادات دون المساس بالفقراء
يمكن أن تساعد زيادة الضرائب العقارية وضرائب الكربون البلدان على تعزيز إيراداتها دون أن يقع عبئها بالضرورة على كاهل المواطنين الفقراء. وتساعد زيادة الطبيعة التصاعدية للضرائب الشخصية وضرائب دخل الشركات على تحقيق الأثر نفسه. وغالباً ما يساعد إجراء تحسينات في التكنولوجيا الرقمية على تيسير تنفيذ هذه الإصلاحات وخفض تكلفتها.
وإذا كان يتحتم زيادة الضرائب غير المباشرة، فينبغي للبلدان أن تستخدم في الوقت نفسه التحويلات النقدية للتعويض عن آثارها على الأسر الأكثر احتياجاً.

نُفذت اليوم إصلاحات طموحة للمالية العامة مُصمَّمة لتعزيز النمو وفي الوقت نفسه الحد من عدم المساواة، فإنها قد تعيد في نهاية المطاف جهود الحد من الفقر إلى الاتجاه الذي كانت عليه قبل الجائحة. وسيتطلَّب الأمر بذل جهود ضخمة لانتهاج خيارات أكثر فعالية على صعيد سياسات المالية العامة لاستعادة الخسائر ذات الصلة بالجائحة في السنوات الأربع إلى الخمس القادمة، ولن يكفي هذا لعودة العالم إلى المسار الذي يفضي إلى إنهاء الفقر بحلول عام 2030. ولكن حتى إذا تبيَّن أن هذه الجهود غير كافية للقضاء على الفقر بحلول عام 2030، فيجب أن تبدأ الآن من أجل تحقيق تعافٍ مستدام من الأزمات المتداخلة التي تعصف بالعالم اليوم. وحتى المبادرات الأصغر إذا أُحسن تصميمها وتنفيذها قد يكون لها تأثير حقيقي على الأسر مثل أسرة نوميكبو.
تقول هذه الأم من توغو أنه لولا سنتين من التحويلات النقدية المنتظمة، لكانت أسرتها قد وصلت إلى الحضيض في أحلك لحظات الجائحة. وتحتفل نوميكبو الآن بالتحسن الذي شهدته تجارة الأسرة بزيت النخيل.

"للمرة الأولى، بدأتُ أنا وزوجي عد النقود. وكان ربحا بسيطا لكن كانت له في نظرنا قيمة كبيرة."
الدروس المستفادة من الجائحة
بعد مرور أكثر من عامين على قدوم جائحة كورونا، يُقدِّم تحليلٌ لتدابير السياسات التي تم تنفيذها في أثناء الجائحة آراء قيمة جديدة على استجابات المالية العامة والفقر.
ذهب قبل الأوان
وتم سحب دعم الدخل الذي تتيحه السياسات قبل الأوان عن بعض الفئات الأكثر احتياجاً التي كانت وظائفهم ودخولهم في عام 2021، وأوائل 2022 لا تزال أقل كثيرا مما كانت عليه قبل جائحة كورونا. وكان ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة يضر كثيرا من هذه الأسر مثل فقراء الحضر.
وكان متوسط مدة برامج الدعم بسبب الجائحة أربعة أشهر ونصف الشهر لكن معظم البرامج استمرت أقل من ثلاثة أشهر. وكان نحو نصف البرامج الجديدة تحويلات نقدية لمرة واحدة. وكان نحو خُمْس البرامج فحسب لا يزال نشطاً في أوائل 2022
معالجة أوجه القصور في السوق
إن تحفيز النمو الاقتصادي في البلدان التي تسعى جاهدةً للتعافي من الجائحة لا يتطلب إنفاق المزيد بل تحسين طريقة الإنفاق. وتوجيه الإنفاق نحو معالجة إخفاقات الأسواق غالباً ما يكون أفضل عائداً وأقل تكلفةً في الأمد الطويل من أنظمة الدعم.
على سبيل المثال، قد تؤدي إعانات دعم مستلزمات الإنتاج الزراعي إلى زيادة الإنتاج في الأمد القصير، لكنها قد تزيد أيضا من تشوهات السوق. ويمكن أن يساعد انتهاج سياسات جيدة التصميم في الإرشاد الزراعي ودعم التسويق على زيادة الاستثمار والإنتاجية لدى صغار المزارعين في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل في الأمد الطويل.

